>
بحث مخصص

الأربعاء، 21 يناير 2009


في عمله الثاني لحلاوة روح يقدم محمد عبد النبي بعد قبطان التي نشرتها مجلة الهلال من قبل ..يقدم وردتي القصة التي تنشر لاول مرة



..اترككم مع محمد عبد النبي ..واتنحي جانبا لتستمتعوا ب(وردته):




وردتي

اكتشفت وردة حمراء في حقيبة أوراقي. ذلك و قد استيقظت متأخراً، و رحت أتهيأ بسرعة للخروج. كانت ملفوفة بسيلوفان متسخ، و محاطة بكمشة من أوراق داكنة الخضرة من نبتة أخرى لا علاقة لها بشجر الورد. لقد اشتريتها إذن ليلة أمس من طفلة دخلت البار بابتسامة واثقة. أذكر هذا الآن بشكل غامض. ماذا علي أن أفعل بها الآن و قد صحوت و لابد أن أجري.
منذ فترة، و على مقهى مشمس يقصده العشاق و تجار المتعة، و لا يحبه المثقفون و الفنانون كما قد قيل لي. جلست في آخر نهار لي بتونس العاصمة، مع نهاية مارس الماضي. دعاني وليد على القهوة. و راح يتحدث. و قال ما معناه إن النهار الذي يخالطه ندم و نسيان هو نهار حقيقي أنجبته ليلة حقيقية.
لم يشتر لي أحد وردة من قبل أبداً. فعلتها أنا. اشتريت لنفسي واحدة دون أن أدرك حتى. لحظة أن بدأ عدد زجاجات البيرة التي أفرغتها في جوفي يختفي و يراوغني. لحظة بان الصحاب من حولي يظهرون أشكالاً غائمة تصدر عنها أصوات مطاطية: كلمات و ضحك و غناء.
أعترف؛ كان هناك شخص جديد يحب الأغنيات القديمة مثلي، و يحب أن يقدم على الغناء في الأماكن العامة مثلي. أعترف؛ كانت صحبته ممتعة.
بل إنني أحمل موقفاً عدائيا تجاه إهداء الورود أصلاً. أشعر و كأنه إهانة. أو بالأخص بادرة جفاء و حياد في صلب العلاقة، و لعلها علامة موت و انتهاء.
هذا النهار إذن هو نهار حقيقي أنجبته ليلة حقيقية، حسب تعريف الشاعر التونسي الشاب الذي يحبه النظام هناك، إلى درجة منحه كلمة شاعر في خانة المهنة بجواز سفره، غير تسهيلات أخرى و وظيفة مرموقة يذهب إليها ساعتين ثلاثة كل يوم. لم يكن ينم قبل طلوع النهار، و يصحو على الضحى. يخطف القهوة و يجري للعمل. يتظاهر هناك بالعمل أمام جهاز الكومبيوتر بينما هو يدردش مع شباب الشعراء العرب ممن تعرف بهم في مؤتمرات و لقاءات عديدة سافر إليها. و مع مقدم الليل، تبدأ حياة وليد "الحقيقية ". ما من مومس و لا قواد في تونس لا يعرف وليد، هكذا يتباهى. كتابه الأول لم يشتره سوى هؤلاء، و كان أقرب إلى سيرة فراش في دار بغاء.
أعترف؛ لقد اخترت وليد دون وعي مني، بمكر من جانبي مع هذا أدركه الآن. فكأنني إذ أقارن بشخص مثله أبدو ملاكاً بريئاً، بل و حريصاً على حياته و مستقبله لأبعد الحدود. رغم الجرح الصغير في المرفق الذي لن أعرف أبداً كيف أصبت به، اكتشفته صباحاً بعد أن صحوت، مع اكتشافي للوردة. فماذا سيفعل الواحد بنهار حقيقي إذا هو مثلاً فقد وظيفته، أو خسر سمعته و نبذه الجميع لأنه ثمرة معطوبة، بل و مصدر إزعاج مجاني. ببساطة عضو زائد عن الحاجة و من الأحسن بتره. أعرف. أعرف؛ يسعى البعض إلى هذه الوضعية بأقدامهم سعياً دائباً. لكنني لا أستطيع. ماذا يفعل الواحد عندها بوردة حمراء بلدية يفاجئه بها الصبح بين أوراقه و أقلامه و كتبه؟ في نهار كهذا، يخالطه الندم و النسيان و عطش و تذكر متقطع لما كان و ما قيل و ما لم يكن و لم يقل. و صداع خفيف يشتد و يرتخي، و طنين. إفلاس تام و خفقان قوي في الصدر. أذهب للعمل مثلاً و لو بعد موعدي بساعتين و نصف، فلا أوقع في دفتر الحضور، و لكن يكتبون اسمي في صفحة " التجاوز" . أنا رجل التجاوزات إذن، ماشي، لكنني لازلت حريصاً على الوقوف في الصف، لم أخرج بعد عن الخطوط الحمراء، مازلت مواطنا صالحا و نافعا للآخرين، و خصوصا صاحب الشركة. و أمكنني علاوة على هذا في نهاري الحقيقي أن أوحي للجميع أنني لم أنم ليلة أمس بما يكفي، حتى لا يقفوا طويلاً أمام رنين صوتي المبحوح و هالات عيني و شحوب وجهي. كما كان بمقدوري أن أتعامل الآن مع جثة الوردة الهامدة في حقيبتي. أي إهانة!
كان وليد مصراً على المضي للحد الأقصى. أخبرني قبل أن يعرف أحد من أصدقاء لياليه المنتظمين أنه طلق امرأته الجزائرية الشابة بعد قصة حب مجنونة جمعت بينهما. ناهيك عن مشكلاته مع أهله بسبب الزواج أولاً ثم بسبب الطلاق بعد حبل امرأته. ترك لهم المنزل و بدأ يبيت في أوتيلات صغيرة أقرب إلى أوكار للمتعة. طلب من صاحبة الأوتيل أن تغير له الغرفة كل ليلة، لكي لا يقيم أي علاقة حميمة بجدران و تفاصيل مكان، أي مكان. أراد أن يستيقظ كل ظهيرة على مكان آخر غريب لا يعرفه. لعل المرأة المجربة حكمت بأنها يمكن لها أن تخدعه، بتغيير تفاصيل صغيرة في الغرفة نفسها؛ الصورة المعلقة فوق فراشه مثلاً؛ نقل الفراش من جوار الحائط إلى ما تحت النافذة، و هكذا! المهم أنه كان يعود أول النهار ليتناول من يدها الرخصة المربربة مفتاحاً جديداً لغرفة جديدة، نقلوا فيها ملابسه و أشياءه. الغرفة نفسها، جديدة كل ليلة. و صداع خفيف يشتد و يتراخى. إفلاس. طنين. عطش. و ما لم يكن و ما لم يقل.

هل يمكن للواحد أن يفض غلاف وردة؟ و يلقي به لسلة المهملات هو و الأوراق التي تنتمي لنبتة أخرى. ثم ينهض ليستعير مقصاً صغيراً من زميله بالمكتب المحصن بكل الاحتياطيات على الدوام، ليقص طرف ساق الوردة، ثم يضعها في إناء بلاستيكي أنيق و على قدها، و قد ملأه لها حتى منتصفه بالماء مذوباً ملعقتين من سكر. أن يفعل هذا كله دون أن يكون وراءه مشاعر حب، أو لمسة تفاؤل، بلا رغبة حتى في إضافة عنصر جمالي على مكتبه؟ الفعل عارياً من كل تأويل، أو النوايا المسبقة. لا زواق رومانسي و لا أسئلة وجودية عن اسم الوردة و معنى الوردة. و لم ألق بالاً بابتسامات الزملاء البلهاء، و انحناءهم لشم وردتي العارية و المفضوحة تحت أعينهم و ألسنتهم و أنوفهم و آذانهم.
أعلن لي قبل أن ننهض من جلستنا رغبته أن يترك كل شيء خلفه و يهاجر لإيطاليا. بالطبع لعبت الدور المنوط بي باعتناء. فتلوت عليه قصيدة المدينة لكفافيس، و أصررت على استحالة هرب الإنسان من ذاته و قدره. و كانت أمامي ساعات قليلة و أغادر هذه المدينة التي أخذت مني شيئاً لا أعرفه كما أعطتني شيئاً لا أعرفه، و صافحت وليد و قبلت وليد و أنا أرسم على وجهي ابتسامة أخشى أن تكون قد كشفت ما بداخلي من حقد غريب.





هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

جميلة وردتك يا محمد ..

حلاوة روح

اختبار الحب الحقيقي

اختبار الحب

اختبار الحب بين شخصين ... اكتب اسم الشخص الاول ثم اسم الشخص الثاني واضفط على احسب ... تكتب الأسماء بالحروف الإنجليزية فقط.

+ =

searsh